الكاتب : هرمان ملفل Herman Melville
تحتل رواية "موبي ديك" للاميركي هيرمان ملفيل مكانة مرموقة بين كلاسيكيات الادب العالمي، فهي اضافة الى كونها الملحمة الكبرى المكتوبة عن صراع تراجيدي بين حوت وانسان تتخذ من هذا الصراع الضاري وسيلة لتأمل الوضع البشري وعلاقته بالوجود كما تحوله الى كيان رمزي معقد عن كيفية العيش وعن المشروع الاميركي الذي وجد في عمل ملفيل شكلا من اشكال التعبير عن نفسه في منتصف القرن التاسع عشر أي حين كانت اميركا تكتشف ذاتها كقوة كونية وامبراطورية امبريالية بالقوة والامكان. فكانت رواية موبي ديك وروايات ملفيل الاخرى بمثابة نبوءة لما ستصير اليه هذه القوة الكامنة.
ومر على صدور "موبي ديك" للمرة الاولى زهاء المئة وخمسين عاما لاقت الرواية خلالها من الاهمال ما جعل نفس كاتبها تمتلئ باليأس والاحساس بالعجز ليصرف بقية حياته موظفا في سلك الجمارك الاميركية ويموت مهملا مجهولا في العقد الاخير من القرن التاسع عشر . ولم يلتفت الى الرواية وينظر اليها بصفتها احد الكتب العظيمة سوى عام 1907 أي بعد وفاة صاحبها بستة عشر عاما ، عندما تم ادراجها ضمن سلسلة "ايفري مان لايبراري" الشهيرة التي تنشر الكلاسيكيات الكبرى ولم يهتم النقد بالرواية الا في العشرينات من القرن الماضي حين بدأ الباحثون والنقاد واساتذة الجامعات يكتبون عن هذا العمل الروائي المدهش الذي طور شكل الكتابة الروائية في منتصف القرن التاسع عشر وجعل الرواية الاميركية تحتل مكانة متقدمة في تاريخ الرواية العالمية.
قيل عن الرواية :
في رواية ( موبي ديك ) لــ ( هرمان ملفل 1819م – 1891م ) نقرأ عن سفينة اسمها الباقوطة بحارتها من أديان مختلفة وقبطانها اسمه آهاب ( Ahab ) .. هذا القبطان فقد رجله أثناء محاولته اصطياد حوت أبيض اسمه موبي ديك.. هذا القبطان أبحر في سفينة يمتلكها أناس المدينة كلهم من أجل اصطياد الحيتان الغنية بالزيت وبيع هذا الزيت وتوزيع ثمنه على المساهمين.. لكن هذا القبطان جاء إلى السفينة بقضية خاصة به.. وضع في رأسه أن ينتقم من موبي ديك الذي قضم رجله متجاهلا مصالح الناس.. فجاب المحيطات لمدة ثلاث سنوات باحثا عن هذا الحوت الأسطوري ومعارضا ضباطه وملاحيه الذين يطلبون منه نسيان الأمر والإهتمام بصيد الحيتان الأخرى لتعبئة السفينة ببراميل زيت حوت العنبر.. ربما يكون عرق الإنسان في هذا العصر هو الزيت.. والحوت الأبيض هو الجوهرة التي في قلبه والتي يبحث عنها الأشرار بكل طرقهم لسلبها منه.. والحوت الأبيض عندما بتر رجل القبطان كان يدافع عن نفسه وعن أرضه.
هذه الرواية من أهم الروايات التي أبدعتها الإنسانية.. تحكي عن صراع الإنسان مع الطبيعة وتقدّم مباهجا إبداعية في فن السرد وتسريب المعلومة من خلال التحرك في أسرار وأغوار مهنة التحويت اللذيذة.. هذه الرواية تعيد لنا شخصية الفرد الذي يحاول استغلال كل امكانيات الجماعة البشرية ووضعها تحت سيطرته من أجل تحقيق رغباته الشخصية وأهدافه الذاتية ضاربا بأهداف الجماعة التي تشاركه الحياة وآمالها وأحلامها ومصالحها إلى عرض الحائط.
قال جورج برنارد شو عن رواية موبي ديك :
(( منذ عرف الإنسان كيف يكتب لم يوجد قط كتاب مثل هذا , وعقل الإنسان أضعف من أن ينتج كتابا مثله , وإني أضع مؤلفه في مصاف مؤلفات رابليه وسويفت وشكسبير )).
لا أعتقد أن هذه الرواية يمكن الكتابة عنها بعد قراءتها لمرّة واحدة.. والكتابة عنها لا يمكن أن تتم في جلسة واحدة.. أو جلستين.. الكتابة عن هذه الرواية نقدا أو دراسة أو انطباعا أعتبره مشروعا إبداعيا.. على من أراد أن يقوم بذلك أن يتفرّغ له لشهور بل لسنوات إن أسعفه الوقت.. فهي من الروايات التي تفجر الرؤى في المخيلة.. هي موج ضخم يستدرجك بالتزحلق عليه ثم يغمرك داخله حتى إن شعر أنك ستختنق رماك على الشاطىء.. هي موج إبداعي أمين.. يغذيك برفق ويضيؤك بسلام ويحترمك فلا يمنحك نفسه مجانا أبدا.. كل شعاع تمسكه في هذه الرواية يقودك إلى بؤرة الحياة لتتأمل الأعاجيب وتقف متمتعا حائرا عاجزا عن تفسير ما رأيت.. وبالرغم من أن هذه الرواية قد تم انتاجها سينمائيا إلا أن النص المرئي سيظل قاصرا على منح كل ما تحتوي الرواية من إبداع.. فهناك جمل وكلمات في الرواية من المستحيل تصويرها أو تدوير الآلات على حروفها.