كنيسة القرية
من البعيد تستوقفك تلك المنازل الحجرية القدية المتربعة على حضن التلة في دردغيا.. الجامع يعانق الكنيسة مستكملاً ثقافة احترام الآخر وخلق فسحة تعايش تحت كنف قرية جنوبية...
فضول التعرف إلى القديم يدفعك لتتبع معالم الطريق للوصول الى القرية التي تقلّ نظيرتها اليوم. هي وحيدة من طرازها الهندسي البيزنطي الذي تعود إلى 2650 سنة.. مع الدخول إليها، تبدأ معالمها بالظهور: منازل حجرية متلاصقة ذات عقد قديمة تربطها أزقة ضيقة. التغلغل داخل طرق القرية يكشف عن معالم غابت عن الانظار.. منازل حجرية ونوافذ خشبية معتقة، محفورة فيها ذكريات أمجاد أجداد غادروا، غير أن بصمة حياتهم لا تزال تخبر عنهم في كل زاوية وحجر... بعض بيوت القرية بدأ بالاندثار، وبعضها الآخر عمد أصحابها الى ترميمها مع الحفاظ على الطابع التاريخي.
كل ركن من القرية يخبر عن الماضي... كل حجر يسأل عن الجذور... علّيات تنتظر قدوم الزائر الضيف اليها... وأبواب تنتظر من يطرقها بعد أن غادرها أصحابها... وما بقي منها يعيش على الماضي المجبول بذكريات وأخبار وقصص وحكايا... مسيحيون ومسلمون معا يقطنون، يتسامرون ويتشاركون في الاعياد والاحزان... وجلسات السمر... واجهات تلك البيوت بأبوابها العالية وشبابيكها المستطيلة ومناورها ذات الزجاج الملون فوق الابواب والشبابيك بأشكالها المثلثة أو النصف دائرية .. الغرف الواسعة والاعمدة المنحوتة من الحجر والممرات المرصوفة بالبلاط الصخري.. هذا شكل بيوت دردغيا، ولكن تحتاج الى ترميم ولفتة ممّن يأخذ تاريخ الجنوب وقراه على محمل الجد.
الدخول الى عقر دار البيوت يعيدك الى سنين ماضية خلت... لكنها مرسومة في كل زوايا الدور البعيدة عن بيوت البيتون والاسمنت... أسقف من طين ومعها العليّة والدار الصغيرة حيث كانت أم فوزي تشعل الحطب لتطهو الطعام، فيما كان أبو فوزي يقطّع الحطب ويوضّبه ويخزّنه لفصل الشتاء... الأشجار ومعها «حاكورة» الدار تستقبلك عند عتبة الباب القديم حيث تتدلى حلقة حديدية كبيرة في وسطه.. تطرق الباب فتستقبلك فوزات، المرأة الستينية. ترتدي فوزات تنورة وتحتها سروال وتضع «القمطة القماشية» على رأسها.. «أهلا وسهلا يا بنتي شرفتي» تقولها، وبسمة حنونة ترتسم على وجهها. الحديث مع فوزات يطول لتأخذك خمسين عاما إلى الوراء. تسرد قصص القرية التي تعشق كل جدرانها «ليكي كنا كتير مبسوطين زمان»، «كنا كلنا نرقص اذا في شي عرس سواء كان لمسلم أو لمسيحي.. كلنا اخوة كنا»، تقولها. كان العرس، أي عرس، يستمر لمدة اسبوع .. أحصنة وسيف وترس والدبكة.. كان الشباب «يدبكون» للصبح.. وعن الفتيات تقول «كانت الفتيات يعددن الخبز المرقوق والكبة النية والبقلة والعصورة.. والله كنا ننبسط كتير»...
غاب الشباب عن القرية التي بقيت خالية إلا من كبار السن ينتظرون قدوم الأحباب وعودتهم من الاغتراب للزيارة... يصعب العثور على من يرشدك الى البيوت المأهولة فهي قليلة، سبعة منازل فقط تنبض الحياة داخلها شتاء، فيما يرتفع العدد الى ستين منزلاً صيفا... لكن لا يمكن إلا ملاحظة التهاون بالتعامل مع جمال القرية، وإهمال أحجارها الصخرية المعتقة مما يؤدي إلى تساقطها في أرض «الدّيار»، كما تقول مريم التي تنهمك وابنتيها في شك وريقات التبغ ...
لا يمكنك إلاّ أن تعجب بدردغيا وأنت تجول داخل أزقتها.. بعض طيور الدجاج تتحرك بحرية بين البيوت وفي الحواكير التي تحتل أشجار التين والليمون بعض مساحاتها، فيما تشكل الدوالي خيمها الطبيعية... رحلة الاستكشاف القديمة تأخذك الى كنيسة عمرها مئة عام، وبقربها يرابض جامع من حجر صخري مرقع. يشير خوري رعية القديس جاورجيوس للروم الملكيين الكاثوليك الاب وليم نخلة الى أن الكنيسة عمرها 160 عاما، وقد لعبت والجامع دورا كبيرا في مواجهة الاحتلال، فلقد كانت حارسة الوحدة وصمام أمان الصمود ورمز العيش المشترك. وهي شهدت زيارة الإمام موسى الصدر الذي حضر طقس تنصير (عمادة) أحد الأطفال في دلالة على النموذج الوطني الحقيقي الذي تمثله دردغيا حيث يتشارك الكل بالأحزان والأفراح... ولا يفوت الأب نخلة التغني بزيارة الإمام موسى الصدر للبلدة، وعبره ذاع صيتها حين أتاها «مؤبنا لأحد آباء البلدة في الكنيسة التي بنيت عام 1911 وشفيعها القديس جاورجيوس»، في حين يلفت الأب نخلة إلى أن الجامع أعيد بناؤه منذ 12 عاما والكنيسة والجامع يشكلان بنظر الأب نخلة نموذجا حياتيا ممتازا.
أم القرى هي دردغيا، واذا عدنا بالجذور الى تاريخها فهي تعني «غيّا» ابنة النبي نون، وتعود الى ستمئة سنة قبل الميلاد، وتحوي آثارا كثيرة إضافة إلى بيوتها الحجرية القديمة، وآثارا أخرى في باطن الأرض. وتحوي القرية دارا باسم «غيا» ومنها أخذ الاسم «دردغيّا»، بحسب ما يشير الباحث في علم الآثار موسى ياسين.
الدبكة وخبز المرقوق والفريك هي من تقاليد القرية ومآكلها حتى الآن، غير أن التباهي برفع الجرن والمحدلة ونقش الحجر والعمّارة قد غاب، بل انتفى، ولم يبق منه إلا الذكرى. يقول الأب نخلة «إن البلدة تمتاز بهدوئها فهي بلدة نموذجية يحلو العيش داخلها». غير أن سهى، وهي من القاطنات فيها، تتأسف لإهمال المنازل وعدم العمل الجدي لترميمها، تقول قبل أن تكمل عملها في شك التبغ الذي يعتبر مصدر العيش الرئيسي للصامدين، لقد رمّم أحد أبناء البلدة منزلا اشتراه، فحوله إلى جنة كما تقول، «منزل حسن أحمد نجدة» وهو الوحيد التي تعرف ملكيته.
«كان في البلدة الكثير من بنَّائي الحجارة المميزين الذين يتمتعون بمهارات فنية وهندسية عالية، وقد ذاع صيتهم في المنطقة وأصبحوا يقومون ببناء العديد من البيوت الحجرية والمساجد والكنائس في بلدات وقرى الجنوب، من بينهم المعماري دخيل البدوي الذي بنى مساجد وحسينيات في بلدات طرفلسيه وباريش وصريفا».
حضارة قديمة وثقافة واحدة وتقاليد مشتركة، بل ان هناك زيجات بين المسلمين والمسيحين كعنوان واضح على وحدة التعايش كما يقول نخلة، وتؤكده مريم التي تزوجت من مسيحي وتلفت ابنتها الى انه في أربعين والدها حضر الشيخ عبد الامير قبلان.
برز من البلدة رجالات ذاع صيتهم في المنطقة وبلاد الاغتراب، من بينهم محمد مطر الذي كان يمتلك أراضي واسعة ويدفع الضرائب عن الأهالي، وخليل ابراهيم البدوي الكاثوليكي الذي لقب بالشيخ لأنه كان على علاقة جيدة مع السيد موسى الصدر والسيد عبد الحسين شرف الدين، الذي مسح على لحيته لمحبته له، فأقسم البدوي حينها أن لا يحلق ذقنه ثانية تقديراً لمحبة السيد له، كما يقول سهيل البدوي.