لماذا إحياء الشعائر الحسينية؟
صناعة للمناعة الحضارية وحفظ للهوية الثقافية
أن إحياء الشعائر الحسينية وتقوية المجالس الحسينية تمثل الطريق الناجع لبناء الاستقرار الأخلاقي والنفسي للشخصية الإنسانية، كما أنها تشكل حصناً منيعاً للحفاظ على الهوية الإسلامية أمام الغزو الثقافي وعواصف العولمة ورياحها العاتية.
وقد قدّم الفقيه المقدس آية الله السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي(اعلى الله درجاته) في الكتاب الاخير (الامام الحسين عظمة الهية وعطاء بلا حدود) الذي جمع في دفتيه مجموعة من محاضراته القيمة، رؤية معمقة حول الشعائر الحسينية وتأثيرها في إحياء ملحمة الإمام الحسين (عليه السلام) ونصرة مبادئه، وذلك بإحياء الشعائر الحسينية جميعها بكل السبل والوسائل المتاحة.
شعائر الله تقودك إلى الله
يرى الفقيه الشيرازي: إن أي شعيرة من شعائر الله تعالى تقود إلى الله سبحانه وتعالى، وأي شيء ما عدا المحرمات، هو مشمول بهذه الآية: ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب. فشعائر الله تعالى: هي كل شيء يقودنا ويذكرنا ويدلنا عليه سبحانه؛ وتعظيمها دليل على تقوى القلوب، فالإنسان المتقي يعظم الله ويعظم كل شيء يرتبط بالله سبحانه وتعالى. والشعائر الحسينية هي جزء من شعائر الله تعالى، أو يمكن أن نعبر عنها ونقول: بأنها من أهم شعائر الله تعالى، فليس للإمام الحسين (صلوات الله عليه) وجود غير ما يدل على وجود الله تعالى، ولا هو بمعزل عن دينه سبحانه، لقد فدى الإمام (صلوات الله وسلامه عليه) نفسه وكيانه وكل ما يملك لله سبحانه وتعالى، وقال بلسان حاله:
(إن كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلي فيا سيوف خذيني).
وإن تعظيم شعائره ومجالسه (عليه السلام) هو في الواقع تعظيم لشعائر الله سبحانه وتعالى.
تعظيم الشعائر الحسينية من تقوى القلوب
يرى الفقيه الشيرازي إنّ كل الشعائر التي تدل على الله تعدّ من شعائر الله تعالى، سواءً كانت موجودة في زمان الإمام الصادق عليه السلام أو لم تكن، فإذا انطبقت الآية الكريمة، فإن تعظيم هذه الشعائر هو تعظيم لله تعالى وتعظيم للدين ودليل على تقوى القلوب. فقوله تعالى (وَمَن يُعَظّمْ شَعَائِرَ اللّهِ فَإِنّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) لم تحدد شكلا معيناً لهذه الشعائر، فكل شكل منها يؤدي إلى هذه النتيجة فهو مرضي عند لله تعالى ومقبول عنده سبحانه وتعالى. إن هذه الشعائر هي التي أبقت الدين حيّاً في النفوس، وإذا كان لدينا قليل من المعرفة بالدين، إنما هو ببركة هذه الشعائر.
ويرى الفقيه المقدس انه ينبغي على كل واحد منّا أن يهتم بتعظيم هذه الشعائر، أي أن نوفيها حقها، فالمجالس الحسينية يجب أن تؤدّى على أفضل وجه، ويجب أن تقام المنابر في كل صقع وناحية، ويجب أن تبقى هذه الشعائر قوية، لأن بقاء الدين منوط بهذه الشعائر، فكل خطوة وكل حركة وكل قطرة دمع وكل مشاركة ولو كانت صغيرة، كلها مكتوبة ومسجلة عند الله تعالى، (كل عين تأتي باكية يوم القيامة إلاّ عين بكت على مصاب سيد الشهداء (صلوات الله وسلامه عليه) وعين بكت من خشية الله وعين غضت عن محارم الله)، هذه العيون الثلاث تأتي قريرة يوم القيامة. فالمشاركة ولو بهذا المقدار القليل، ولو بالحضور إلى هذه المجالس، كل ذلك مكتوب عند الله تعالى، بعضهم قد يقول، ما قيمة هذه الدمعة؟! وما قيمة هذا الحضور؟! وما قيمة الكتاب الذي أطبعه حول شعائر الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) ؟! بل كل هذه المشاركات لها أعظم الأجر عند الله (سبحانه وتعالى) ولكن بشرط الإخلاص.
عاشوراء من أعظم شعائر الله
ويرى الفقيه الشيرازي قدس سره انه من جملة مظاهر التقوى، هذا المظهر الذي تناولته هذه الآية (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) فالشخص الذي لا يعظّم شعائر الله، والشعيرة كل علامة تقودك إلى الله، وكل ما يرتبط بالله سبحانه وتعالى علامة التقوى، فالمسجد شعيرة من شعائر الله،فإذا لم يعظم الإنسان المسجد فهذا دليل على عدم وجود التقوى لديه، أو دليل على ضعف التقوى في قلبه،ومناسبة عاشوراء من أعظم شعائر الله سبحانه وتعالى، وروي أنَّ النبي (صلى الله عليه و آله وسلم) قال: إن الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة، فالحسين (صلوات الله وسلامه عليه) يعطيك الرؤية في الحياة. إذن، علينا لبس السواد في هذه الأيام والحضور إلى مجالس سيد الشهداء (صلوات الله وسلامه عليه) والمساهمة المادية في إقامة هذه المجالس وتعظيمها، وأن نصطحب أولادنا، حتى ينموا حسينيين، فلا تتركوا أولادكم في البيت وحدهم؛ إنها مسؤولية الآباء، إن هذه المجالس محبوبة عند الأطفال، ومنظورة إليهم كل خطوة من هذه الخطوات بأعينهم وبنظرهم.
الشعائر حفاظ على الهوية
يرى الفقيه الشيرازي ان إن الاهتمام بقضايا سيد الشهداء عليه السلام يحفظ لنا هويتنا لأن هذه المعركة الكبيرة يعيشها المؤمنون اليوم في كل مكان، حيث يقول: عندما نتحرك في الحياة ونقوم ببعض الأعمال، إنما نعتمد في ذلك على مخزون كبير من تاريخنا وهو الذي يوّجه حركتنا في الحياة، فإذا فقد الفرد ذاكرته سيبدأ بنسيان معلوماته شيئاً فشيئاً، ويعيش حالة الغربة عن الأفراد الذين يحيطون به، ولن يعرفهم حتى لو كانوا أصدقاءه، ثم يشتد هذا المرض تدريجيّاً، فلا يعرف أقرباءه كذلك الأمة التي لا تاريخ لها تكون مثل فرد من دون ذاكرة، وتوجد هنالك جهات تحاول اليوم أن تفصلنا عن تاريخنا، لذلك يجب علينا أن نربط أجيالنا بتأريخنا، لأنَّ التأريخ مهمٌ جدّاً، وأحد أهم الأشياء هو أن نربط أجيالنا بالنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) وبأهل البيت وبالإمام الحسين (صلوات الله عليه)، فكثير من الأفراد سافروا إلى بلاد الغرب وعاشوا في ذلك الخضمّ الذي تعرفونه، لكن الذين عاشوا عاشوراء في قلوبهم وأرواحهم ونفوسهم، تمكنوا من أن يحفظوا هويتهم.
ويضيف الفقيه الشيرازي: نقل لي أحدُ الأخوة المُطّلعين حول هذا الموضوع: بأنَّ علماءَ الغرب يقومون حاليّاً بدراسات كبيرة ودقيقة جدّاً حول التشيُّع، لكي يعرفوه جيّداً ويعرفوا من هم الشيعة؟ وقال: إنه نُشرت مقالة لأحد المفكرين الغربيين يتحدث فيها حول الجاليات التي جاءت إلى بلدان الغرب حيث ذاب وانتهى كثير منها في ذلك المحيط، ويضيف هذا المفكر الغربي: ولكن وجدنا هنالك أمة واحدة تستعصي عليها عمليات التذويب وتقاوم بقوة وهم شيعة أهل البيت (صلوات الله عليهم) ثم يسأل هذا المفكر الغربي: كيف حافظ هؤلاء الشيعة على هويتهم وكيانهم وأصالتهم؟ فيجيب: يقف وراء ذلك عاملان:
العامل الأول: هو الإمام الحسين (صلوات الله عليه)، وهو عامل مهم جداً، فقد عمل البعثيون في العراق خمسة وثلاثين عاماًودمروا وفعلوا الكثير بما يحتاج تدوينه إلى آلاف المجلدات لكي يعرف الإنسان ماذا فعلوا، ولكن على الرغم من ذلك حافظ المؤمنون في العراق على دينهم وإيمانهم، لذلك فإن قضيةَ عاشوراء والارتباط بها تعد من العوامل المهمة في هذا المجال.
العامل الثاني: المرجعية الدينية عند شيعة أهل البيت ، حيث إن هذا الانشداد والارتباط والاعتقاد والإيمان الروحي بهذه المرجعية هو الذي حفظ هذه الأمة، لذلك في الواقع يجب أن نبقي هذا الارتباط بالتاريخ وبالإمام الحسين (صلوات الله عليه) على أقوى ما يكون، حتى عند أطفالنا الصغار.
صناعة العقلية
يرى الفقيه الشيرازي إن أطفالنا يعيشون اليوم عقلية الأفلام، فهي التي توجّه وتصنع عقليتهم، لكن اقامة مجلس حسينيّ في البيت سيصنع عقلية الطفل. وقد نُشر تقرير علمي جديد حول هذا الموضوع، وهو خطر يجب أن يتنبّه له الآباء والأمهات، فهنالك الكثير من الألعاب الموجودة والمتداولة بين الأطفال تحتوي على مشاهد عنف، وجاء في التقرير العلمي المذكور، إنه توجد هنالك في المخ منطقة حساسة تجاه العنف، بمعنى أنَّ الطفل عندما يرى منظراً عنيفاً في الخارج، كأن يضرب شخص شخصاً آخر، فيبدي المخ حساسية تجاه هذا المنظر بالفطرة، ويكره ذلك ويتأثر وينفعل وينزعج، يذكر هذا التقرير بأن الأطفال الذين اُجريت عليهم التجارب ممن يشاهدون الأفلام والبرامج التي تحتوي على العنف ستقلّ حساسيتهم تجاهه، لأن الطفل الذي يرى المظاهر العنيفة في هذه الأفلام مئات المرات، سوف لا يبدي حساسية تجاه العنف، فإذا مر على منظر ما ورأى شخصاً يُقتل يصبح عنده منظراً عاديّاً، ولا يُبدي ردَّ فعلٍ نفسيّ تجاه ذلك، بعكس ذلك إذا كان الطفل رضيعاً، أي عمره عامان أو ثلاثة وينشأ في بيت يسمع فيه الخطيب الحسيني والمواعظ الدينية ويشترك في تقديم الطعام للحاضرين، فسوف تُنظَّم عقليته على هذا النحو.
خطر الذوبان الثقافي
ويرى الفقيه السيد محمد رضا الشيرازي اعلى الله درجاته ان أحد أكبر الأخطار التي تهدد كل حضارة هو خطر الذوبان الثقافي، ولا يتعلق الذوبان الثقافي بحجم الأمة، فربما تكون هنالك أمة كبيرة من ناحية الحجم، ولا يتعلق هذا الخطر بحجمها وإن تعلق بكيانها، كذلك لايتعلق خطر الذوبان الثقافي بقوة الأمة، فقد تكون هنالك أمة قوية مهيأة ولا تفتقد شيئاً من عناصر القوة، ولكن قد يهدد الخطر الذوبان الثقافي حضارتها وكيانها.
وأوضح مثال على قولنا هذا هم المغول الذين جاؤوا إلى بلادنا بذلك الجيش الجرار الذي كان لديهم، فكانوا يملكون كل شيء في ذلك الحين، واحتلوا البلاد الواحدة تلو الأخرى، وحطّموا الخلافة العباسية، فقد كان المغول أقوياء حيث يُنقل أن نهر دجلة كان ملوَّناً باللونين الأحمر والأسود، لعدة أيام من الدماء التي أُريقت في بغداد والكتب الخطية التي أُلقيت في نهر دجلة، ولكن مع ذلك ذاب المغول ثقافياً، لعدم امتلاكهم مناعة وحصانة فكرية، فقد امتصتهم الأمة الإسلامية وهضمت الغزو المغولي في داخلها، وتحول حكام المغول أنفسهم إلى مسلمين، وبعضهم تحوّل إلى موالين لأهل البيت (صلوات الله عليهم).
إذن فالمغول كانت أمة قوية ولكنها ذابت ثقافياً في أمةٍ أخرى، وكانت حضارة قوية ولكن ذابت ضمن حضارة أخرى، فلا يتعلق الذوبان الثقافي إذن بحجم الأمة ولا بقوتها ولا بمواردها الطبيعية، ولكن يتعلق بالمناعة الفكرية لها، وهي إحدى أقوى النقاط التي نمتلكها نحن الموالين لأهل البيت (صلوات الله عليهم)، فلو فتّشت العالم كله من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب فلن تجد أمةً تملك قوة كقوة سيد الشهداء عليه السلام.
يقول الفقيه المقدس: الموالون لأهل البيت (صلوات الله عليهم) يملكون أقوى قوة، وهي سفينة النجاة: (كلنا سفن النجاة ولكن سفينة الحسين عليه السلام أوسع وفي لجج البحار أسرع)، فهذه الحملات التي تعرّض لها الموالون لأهل البيت يندر أن تعرضت لها أمة أخرى، والأحقاد التي أنصبّت على الموالين لأهل البيت (صلوات الله عليهم) منذ ذلك اليوم، حيث يندر أن توجد هكذا أمة في التاريخ كله تنصبّ عليها هذه الأحقاد وبهذا الحجم والقدر، فقد شرّدوهم تحت كل حجر ومدر منذ أيام معاوية وقبل ذلك أيضاً.
ويضيف الفقيه الشيرازي: لاحظ الإرهاب والتنكيل وتهديم الدور، ولكن لاحظ اللطف الإلهي أيضاً وهو لطف عظيم، فهذه الأمة التي قُتّلت وشُرّدت وبُنيت في أسطوانات بغداد وسُملت أعين رجالها وقُطعت أعناقهم أو وضعوا في السجون حتى ماتوا، تلك السجون التي ما كان السجين يُميّز فيها الليل عن النهار، كيف قاومت هذه الأمة كل ذلك؟ إنها قاومت بقوة سيد الشهداء (صلوات الله وسلامه عليه)، بمجالس سيد الشهداء (صلوات الله عليه) التي حفظت هذا الكيان وهذه الأمة.
وبرأي الفقيه الشيرازي اعلى الله درجاته فإن مجالس سيد الشهداء عليه السلام وإحياء ذكراه هي من أفضل الوسائل الغيبية لدرء المخاطر والآفات التي تهددنا كأفراد وتهددنا كأمم، كما إنَّ هذه المجالس والذكرى شفيعةٌ لنا في ذلك اليوم وهو الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون، في ذلك اليوم الذي يكون فيه الإنسان بأشد الحاجة، لأن يده انقطعت من كل شيء ولا يوجد عنده أي شيء ينفعه.، وحينما يتقطّع كل شيء عن الإنسان، تكون هذه المجالس وهذه الذكرى والزيارة والعبرة شفيعةً له في ذلك اليوم. إذن فهذه المجالس تحفظ لكم دين أبنائكم، حيث يعيش هؤلاء الأبناء في أجواء ملوّثة، فالمدارس ملوّثة، والصحف ملوّثة، والمجتمع ملوّث، بل كل شيء ملوّث حتى الهواء الذي يستنشقه الابن ملوّث، إنه تلوّثٌ كامل يشمل كل شيء، فكيف نحفظ هؤلاء الأبناء؟ إذا أردنا أن نحفظ أبناءنا فالطريق هو إقامة مجالس سيد الشهداء عليه السلام في كل بيت وفي كل مكان، وإذا أردنا أن نحفظ إيماننا فالطريق هو سيد الشهداء عليه السلام، وإذا أردنا الأمان في الدنيا والآخرة فالطريق هو سيد الشهداء عليه السلام أيضاً.